كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب بأن غضبه صلى الله عليه وسلم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلى الله عليه وسلم ويزيد علمًا بصحة ما جاء به.
ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} [آل عمران: 93] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطيت الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذ منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقيقة بعثته صلى الله عليه وسلم، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.
وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمن يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أوشك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلًا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلًا وهو المعول عليه {وهدى} أي إلى الشرائع التي هي الطرق الموصلة إلى الله عز وجل: {وَرَحْمَةً} حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى: بمقتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم، وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر الخ، وجوز أبو البقاء انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي كي يتذكروا بناء على أنل لعل للتعليل؛ فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء: 129] {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وحكى الواقدي عن البغويّ أنه قال جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلا {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فإنها فيه للتشبيه، والمشهور أنها للترجي.
ولما كان محالًا عليه عز وجل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونوا على حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير، وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى، وجعل الزمخشري في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الإرادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع، ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد الله تعالى عن إرادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل إسناد ما للبعض إلى الكل، وأنت تعلم أن ازرادة عند المعتزلة قسمان: تفويضية، وهي قد يتخلف المراد عنها، وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلًا، فمتى أريد القسم الأول منها هنا زال الإشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق.
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم أيضًا واقع زمان مساس الحاجة إليه واقتضاء الحكمة له البتة متضمنًا تحقيق كونه وحيًا صادقًا من عند الله تعالى ببيان أن الوقوف على ما فصل من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين أنه بوحي من علام الغيوب لا محالة كذا قيل: ولا يخفى أن تعين كوه بوحي لا يتم إلا بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم كما قال المشركون: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هوأظهر انتفاء منه للإشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بأن المحتاج إلى الإخبار بانتفائه ذانك الأمران دونه على أنه عز وجل قد نفى في موضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاستفاضة وإن قلنا: إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدًا، ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر، والمعنى على ما ذهب إليه بعضهم وما كنت حاضرًا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه السلام، والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب إضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في مسجد الجامع، والأصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الأول.
{إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة.
{وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} أي من جملة الحاضرين للوحي إليه أو الشاهدين على الوحي إليه عليه السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس، فالشاهد من الشهادة إما بمعنى الحضور أو بمعناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الأول بلزوم التكرار فإنه قد نفى الحضور أولًا في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} وكذا إرادة المعنى الثاني بلزم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى، ومن هنا قيل: المراد من الأول نفي كونه صلى الله عليه وسلم حاضرًا بنفسه لغرض من الأغراض، ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة والسلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليه السلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك.
وقيل: المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام فقد جاء الشاهد اسمًا للملك كما في القاموس فكأنه قيل: ما كنت حاضرًا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر الله تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهم السلام ولهم من الإطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه السلام فتخبر به الناس.
قال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى، وقيل: وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عمومًا بعد خصوص، وقيل: المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيًا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فكيون ترقيًا في النفي.
وقيل: المراد {وَمَا كُنْتَ} إذ ذاك منتظمًا في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور.
ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من اليل.
والقال، وفي القلب من صحة نسبة ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك، والله تعالى يتولى هداك.
{وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا} أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونًا كثيرة {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لاسيما على آخرهم الذين أنت فهيم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الأنباء على ما هي عليه فأوحينا إليك وقصصنا الأنباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما بوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد؛ وخلاصة المعنى لم تكن حاضرًا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الأنباء، وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أي مقينًا {فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} وهم شعيب عليه السلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلى الله عليه وسلم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك، وقوله سبحانه: {تَتْلُو عَلَيْهِمْ} أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه {آياتنا} الناطقة بما كان لموسى عليه السلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويًا أو خبر ثان لكنت {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} لك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} أي وقت ندائنا موسى {إني أنا الله رب العالمين} [القصص: 30] واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فروعون {ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ} أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منالك وللناس.
وقيل: أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولًا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبًا إن شاء الله تعالى، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للاشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس وصرح به فيما بينهما تنصيصًا على ما هو المقصود وإشعارًا بأنه المراد فيهما أيضًا ولله تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْمًا} متعلق بالفعل المعلل بالحرمة وهو يستدعي أن يكون الإرسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالإنذار، وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازل.
وقرأ عيسى، وأبو حيوة {رَحْمَةً} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور، وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا: {مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} صفة لقوما و{مِنْ} الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازًا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قومًا مقولًا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أصلًا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلًا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة بكثير واندراك شرعه وعدمه وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل: ذلك، وقيل: إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى الله عليه وسلم قال العلامة ابن حجر في المنح المكية: من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته اه، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلى الله عليه وسلم.
وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضًا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلى الله عليه وسلم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصًا بإسمعيل عليه السلام، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال: {فائدة} كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة الأذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة. اهـ.
وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على إعراف الرد والقبول، ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك، وقيل: إن موسى.